كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عادل: وهذا يسمى عند أهل البيان الكلام الموجه، ومثله لما سئل بعضهم وكان بين أقوام بعضهم يحبّ عليًا دون غيره وبعضهم يحبّ أبا بكر وبعضهم عمر وبعضهم عثمان رضي الله تعالى عنهم، فقيل له أيهم أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من كانت ابنته تحته، وقيل: لما تفرسوا أنها عرفته قالت إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به وقيل إنها: لما قالت ذلك قالوا لها من؟ فقالت أمي قالوا ولأمك ابن قالت نعم هارون وكان ولد في سنة لا يقتل فيها قالوا صدقت فائتينا بها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريًا فقالوا أقيمي عندنا فقالت لا أقدر على فراق بيتي إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به وأظهرت الزهد فيه نفيًا للتهمة فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها فذلك قوله تعالى: {فرددناه إلى أمّه} ثم علله بقوله تعالى: {كي تقرّ عينها} أي: تبرد وتستقرّ، وأصل قرّة العين من القرّ وهو البرد أي: بردت ونامت بخلاف سخنت عينه يقال أقرّ الله تعالى عينك من الفرح وأسخنها من الحزن فلهذا قالوا دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارّة هذا قول الأصمعي، قال أبو تمام:
فأما عيون العاشقين فأسخنت ** وأما عيون الشامتين فقرت

وقال أبو العباس: ليس كما قال الأصمعيّ بل كل دمع حارّ فمعنى أقرّ الله تعالى عينك صادفت سرورًا فنامت وذهب سهرها وصادفت ما يرضيك أي: بلغك الله أقصى أملك حتى تقرّ عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما في يديك {ولا} أي: وكي لا {تحزن} أي: بفراقه {ولتعلم} أي: علمًا هو عين اليقين كما كانت عالمة به علم اليقين وعلم شهادة كما كانت عالمة به علم غيب {أن وعد الله} أي: الأمر الذي وعدها به الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله {حق} أي: هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع {ولكن أكثرهم} أي: أكثر آل فرعون وغيرهم {لا يعلمون} أنّ وعد الله حق فيرتابون فيه أولا يعلمون أنّ الله وعدها ردّه إليها، قال الضحاك: لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه قالت لا قال فما له قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن فما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجوهر وأجرى عليها أجرها.
قال السدي: وكانوا يدفعون إليها كل يوم دينارًا، فإن قيل: كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها منه؟
أجيب: بأنها ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ولكنه مال حربي كانت تأخذه على الاستباحة فمكث عندها إلى أن فطمته واستمرّ عند فرعون يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل كما قال تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء {ألم نربك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين}.
{ولما بلغ أشدّه} وهو ثلاثون سنة أو وثلاث كما قال مجاهد: وغيره {واستوى} أي: بلغ أربعين سنة كما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقيل: اعتدل في السنّ وتم استحكامه بانتهاء شبابه وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين {آتيناه} أي: ابتداء من غير اكتساب أصلًا، خرقًا للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء {حكمًا} أي: عملًا محكمًا بالعلم {وعلمًا} أي: فقهًا في الدين تهيئة لنبوّته وإرصادًا لرسالته، وقيل: المراد بالعلم علم التوراة والحكم السنة، قال الزمخشري: وحكمة الأنبياء سنتهم قال الله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة} (الأحزاب) وقيل: معناه آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث فكان لا يفعل فعلًا يستجهل فيه.
قال البقاعي: واختار الله تعالى هذا السن للإرسال ليكون من جملة الخوارق لأنّ به يكون ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه: {ومن نعمره}.
أي: إلى إكمال سنّ الشباب {ننكسه في الخلق}.
أي: نوقفه فلا يزداد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء أولا يوجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلًا عشر سنين ثم يأخذ في النقصان هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم في حدّ الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب بل غريزة يغرزها الله تعالى فيهم حينئذ ويؤتون من قوّة الأبدان أيضًا بمقدار ذلك ففي انتكاس غيرهم يكون نموهم وكذا من ألحقه الله تعالى بهم من صالحي أتباعهم كما قال تعالى.
{وكذلك} أي: مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي: كلهم على إحسانهم، ولما أخبر تعالى بتهيئته للنبوّة أخبر بما هو سبب لهجرته وكأنها سنة بعد إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {ودخل} أي: موسى عليه السلام {المدينة} قال السدي: هي مدينة منف من أرض مصر، وقال مقاتل: كانت قرية تدعى جابين على رأس فرسخين من مصر، وقيل: مدينة عين شمس، وقيل: غير ذلك {على حين غفلة من أهلها} وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة، وقال محمد بن كعب القرظي: دخلها فيما بين المغرب والعشاء، وقيل: يوم عيد لهم وهم مشتغلون فيه بلهوهم، وقيل: لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل واختلف في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت.
قال السدي: وذلك أن موسى كان يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه فركب فرعون يومًا وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له إن فرعون قد ركب فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض منف فدخلها نصف النهار وليس في طرقها أحد.
قال ابن إسحاق: كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يسمعون منه ويقتدون برأيه فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه فخالفهم في دينهم فأخافوه فكان لا يدخل قرية إلا خائفًا مستخفيًا، وقال ابن زيد: ولما علا موسى فرعون بالعصا في صغره فأراد فرعون قتله فقالت امرأته هو صغير فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشدّه {فوجد فيها} أي: المدينة {رجلين يقتتلان} أي: يفعلان مقدّمات القتل مع الملازمة من الضرب والخنق وهما إسرائيلي وقبطيّ، ولهذا قال تعالى مجيبًا لمن كان يسأل عنهما وهو ينظر إليهما {هذا من شيعته} أي: من بني إسرائيل {وهذا من عدوه} أي: من القبط، قال مقاتل: كانا كافرين إلا أن أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل لقول موسى عليه السلام {إنك لغويّ مبين} والمشهور أن الإسرائيلي كان مسلمًا قيل إنه السامريّ والقبطي طباخ فرعون فكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ، وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس لما بلغ موسى أشدّه لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع وكان بنو إسرائيل غزُّوًا لمكان موسى لكونه ربيب الملك مع أن مرضعته منهم لا يظنون أن سبب ذلك إلا الإرضاع {فاستغاثه} أي: طلب منه {الذي من شيعته} أن يغيثه {على الذي من عدوّه} فغضب موسى عليه السلام واشتدّ غضبه وقال للفرعوني خل سبيله فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك فنازعه فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك وكان موسى عليه السلام قد أوتي بسطة في الخلق وشدّة في القوّة والبطش {فوكزه موسى} أي: دفعه بجمع كفه، والفرق بين الوكز واللكز: أنّ الأوّل: بجمع الكف والثاني: بأطراف الأصابع، وقيل: بالعكس، وقيل اللكز في الصدر والوكز في الظهر {فقضى} أي: فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة وهو الموت الذي لا ينجو منه مخلوق {عليه} فقتله وفرغ منه، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة فلم يشعر به أحد فندم موسى عليه السلام عليه ولم يكن قصده القتل فدفنه في الرمل.
{قال هذا} أي: قتله {من عمل الشيطان} أي: لأني لم أومر به على الخصوص ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافرًا حربيًا، ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه بقوله: {إنه عدوّ} فينبغي الحذر منه {مضلّ} لا يقود إلى خير أصلًا {مبين} أي: عداوته وإضلاله في غاية البيان ما في شيء منهما خفاء ولما لم يكن في قتله إلا الندم لعدم إذن خاص.
{قال رب} أي: أيها المحسن إليّ {إني ظلمت نفسي} أي: بالإقدام على ما لم تأمرني به بالخصوص وإن كان مباحًا {فاغفر لي} أي: امحُ هذه الهفوة عينها وأثرها {لي} أي: لأجلي لا تؤاخذني {فغفر} أي: أوقع المحو لذلك كما سأل إكرامًا {له إنه هو} أي: وحده {الغفور} أي: البالغ في صفة الستر لكل من يريد {الرحيم} أي: العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية ولأجل أن هذه صفته ردّه إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجا منهم قبل إرساله على غير قياس، ثم شكر ربه على هذه النعمة التي أنعم بها عليه بأن.
{قال رب} أي: أيها المحسن إليّ {بما أنعمت عليّ} أي: بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة {فلن أكون} أي: إن عصمتني {ظهيرًا} أي: عونًا وعشيرًا وخليطًا {للمجرمين} قال ابن عباس: للكافرين وهو إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكسيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من تؤل مظاهرته إلى الجرم والإثم كما في مظاهرة الإسرائيلي المؤدّية إلى القتل الذي لم يؤمر به وهذا نحو قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}.
وعن عطاء أن رجلًا قال له إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه قال فمن الرأس يعني من يكتب له قال خالد بن عبد الله القسري قال فأين قول موسى وتلا هذه الآية.
وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلمًا فيجمعون في تابوت من حديد فيرمي بهم في جهنم» وقول ابن عباس يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى عليه السلام كان كافرًا وهو قول مقاتل: وقال قتادة: أني لا أعين بعدها على خطيئة، وقيل: بما أنعمت عليّ من القوة فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك، قال ابن عباس: لم يستئن أي: لم يقل فلن أكون إن شاء الله تعالى فابتلي به في اليوم الثاني كما قال تعالى: {فأصبح في المدينة} أي: التي قتل القتيل فيها {خائفًا} أي: بسبب قتله له {يترقب} أي: ينتظر ما يناله من جهة القتيل، قال البغويّ: والترقب انتظار المكروه، وقال الكلبيّ: ينتظر متى يؤخذ به {فإذا} أي: ففجأه {الذي استنصره} أي: طلب نصرته من شيعته {بالأمس} أي: اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ {يستصرخه} أي: يطلب أن يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطيّ آخر كان يظلمه، فكأنه قيل: فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره فقيل {قال له} أي: لهذا المستصرخ {موسى إنك لغويّ} أي: صاحب ضلال بالغ {مبين} أي: واضح الضلال غير خفيه لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلومًا ثم دنا منهما لينصره.
{فلما أن أراد} أي: شاء فإن مزيدة {أن يبطش} أي: موسى عليه السلام {بالذي هو عدوّ لهما} أي: لموسى والإسرائيلي لأنه لم يكن على دينهما ولأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل بأن يأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه {قال} أي: الإسرائيلي الغويّ لأجل ما رأى من غضبه وتكليمه له ظانًا أنه يريد البطش به {يا موسى} ناصًا عليه باسمه {أتريد أن تقتلني} أي: اليوم وأنا من شيعتك {كما قتلت نفسًا بالأمس} أي: من شيعة أعدائنا والذي يدل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق، وعليه الأكثرون، لأنه لم يعلم بقتل القبطي غير الإسرائيلي، وقيل: إنما قال موسى للفرعوني {إنك لغويّ مبين} بظلمك ويناسبه قوله: {إن} أي: ما {تريد إلا أن تكون جبارًا} أي: قاهرًا عاليًا فلا يليق ذلك إلا بقول الكافر، أو أن الإسرائيلي لما ظن قتله فإن ذلك، وقد قيل في الإسرائيلي أنه كان كافرًا، قال أبو حيان وشأن الجبار أن يقتل بغير حق {في الأرض} أي: التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد {وما تريد} أي: تتخذ ذلك إرادة {أن تكون} أي: كونًا هو لك كالجبلة {من المصلحين} أي: الغريقين في الصلاح فإنّ الصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة فلما سمع القبطيّ هذا ترك الإسرائيلي وكان القبط لما قتل ذلك القبطي ظنوا في بني إسرائيل فأغروا فرعون بهم وقالوا إنّ بني إسرائيل قتلوا منا رجلًا فخذ لنا بحقنا فقال ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقضي بغير بينة ولا تثبت فلما قال هذا الغوي هذه المقالة علم القبطي أن موسى عليه السلام هو الذي قتل الفرعوني فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك فأمر فرعون بقتل موسى.